كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والله هو الذي جعل العاقر لا تلد. وجعل الشيخ الفاني لا ينسل؛ وهو قادر على إصلاح العاقر وإزالة سبب العقم، وتجديد قوة الإخصاب في الرجل. وهو أهون في اعتبار الناس من إنشاء الحياة ابتداء. وإن كان كل شيء هينًا على القدرة: إعادة أو إنشاء.
ومع ذلك فإن لهفة زكريا على الطمأنينة تدفع به أن يطلب آية وعلامة على تحقق البشرى فعلًا. فأعطاه الله آية تناسب الجو النفسي الذي كان فيه الدعاء وكانت فيه الاستجابة.. ويؤدي بها حق الشكر لله الذي وهبه على الكبر غلامًا.. وذلك أن ينقطع عن دنيا الناس ويحيا مع الله ثلاث ليال ينطلق لسانه إذا سبح ربه، ويحتبس إذا كلم الناس، وهو سوي معافى في جوارحه لم يصب لسانه عوج ولا آفة.
{قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويًا}..
وكان ذلك: {فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيًا}..
ذلك ليعيشوا في مثل الجو الذي يعيش فيه، وليشكروا الله معه على ما أنعم عليه وعليهم من بعده.
ويترك السياق زكريا في صمته وتسبيحه، ويسدل عليه الستار في هذا المشهد ويطوي صفحته ليفتح الصفحة الجديدة على يحيى؛ يناديه ربه من الملأ الأعلى: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة}.
لقد ولد يحيى وترعرع وصار صبيًا، في الفجوة التي تركها السياق بين المشهدين. على طريقة القرآن في عرضه الفني للقصص، ليبرز أهم الحلقات والمشاهد، وأشدها حيوية وحركة.
وهو يبدأ بهذا النداء العلوي ليحيى قبل أن يتحدث عنه بكلمة. لأن مشهد النداء مشهد رائع عظيم، يدل على مكانة يحيى، وعلى استجابة الله لزكريا، في أن يجعل له من ذريته وليًا، يحسن الخلافة بعده في العقيدة وفي العشيرة. فها هو ذا أول موقف ليحيى هو موقف انتدابه ليحمل الأمانة الكبرى. {يا يحيى خذ الكتاب بقوة}.. والكتاب هو التوراة كتاب بني إسرائيل من بعد موسى، وعليه كان يقوم انبياؤهم يعلمون به ويحكمون. وقد ورث يحيى أباه زكريا، ونودي ليحمل العبء وينهض بالأمانة في قوة وعزم، لا يضعف ولا يتهاون ولا يتراجع عن تكاليف الوراثة..
وبعد النداء يكشف السياق عما زود به يحيى لينهض بالتبعة الكبرى: {وآتيناه الحكم صبيًا وحنانًا من لدنا وزكاة وكان تقيًا}..
فهذه هي المؤهلات التي زوده الله بها وأعده وأعانه على احتمال ما كلفه إياه عندما ناداه..
آتاه الحكمة صبيًا. فكان فذًا في زاده، كما كان فذا في اسمه وفي ميلاده. فالحكمة تأتي متأخرة. ولكن يحيى قد زود بها صبيًا.
وآتاه الحنان هبة لدنية لا يتكلفه ولا يتعلمه؛ إنما هو مطبوع عليه ومطبوع به.
والحنان صفة ضرورية للنبي المكلف رعاية القلوب والنفوس، وتألفها واجتذابها إلى الخير في رفق.
وآتاه الطهارة والعفة ونظافة القلب والطبع؛ يواجه بها أدران القلوب ودنس النفوس، فيطهرها ويزكيها.
{وكان تقيًا} موصولًا بالله، متحرجًا معه، مراقبًا له، يخشاه ويستشعر رقابته عليه في سره ونجواه.
ذلك هو الزاد الذي آتاه الله يحيى في صباه، ليخلف أباه كما توجه إلى ربه وناداه نداء خفيا. فاستجاب له ربه ووهب له غلامًا زكيًا..
وهنا يسدل الستار على يحيى كما أسدل من قبل على زكريا. وقد رسم الخط الرئيسي في حياته، وفي منهجه، وفي اتجاهه. وبرزت العبرة من القصة في دعاء زكريا واستجابة ربه له، وفي نداء يحيى وما زوده الله به. ولم يعد في تفصيلات القصة بعد ذلك ما يزيد شيئًا في عبرتها ومغزاها..
والآن فإلى قصة أعجب من قصة ميلاد يحيى.. إنها قصة ميلاد عيسى. وقد تدرج السياق من القصة الأولى ووجه العجب فيها هو ولادة العاقر من بعلها الشيخ، إلى الثانية ووجه العجب فيها هو ولادة العذراء من غير بعل! وهي أعجب وأغرب.
وإذا نحن تجاوزنا حادث خلق الإنسان أصلًا وإنشائه على هذه الصورة، فإن حادث ولادة عيسى ابن مريم يكون أعجب ما شهدته البشرية في تاريخها كله، ويكون حادثًا فذًا لا نظير له من قبله ولا من بعده.
والبشرية لم تشهد خلق نفسها وهو الحادث العجيب الضخم في تاريخها! لم تشهد خلق الإنسان الأول من غير أب وأم، وقد مضت القرون بعد ذلك الحادث؛ فشاءت الحكمة الإلهية أن تبرز العجيبة الثانية في مولد عيسى من غير أب، على غير السنة التي جرت منذ وجد الإنسان على هذه الأرض، ليشهدها البشر؛ ثم تظل في سجل الحياة الإنسانية بارزة فذة تتلفت إليها الأجيال، إن عز عليها أن تتلفت إلى العجيبة الأولى التي لم يشهدها إنسان!
لقد جرت بسنة الله التي وضعها لامتداد الحياة بالتناسل من ذكر وأنثى في جميع الفصائل والأنواع بلا استثناء، حتى المخلوقات التي لا يوجد فيها ذكر وأنثى متميزان تتجمع في الفرد الواحد منها خلايا التذكير والتأنيث.. جرت هذه السنة أحقابًا طويلة حتى استقر في تصور البشر أن هذه الطريقة الوحيدة، ونسوا الحادث الأول. حادث وجود الإنسان لأنه خارج عن القياس. فأراد الله أن يضرب لهم مثل عيسى ابن مريم عليه السلام ليذكرهم بحرية القدرة وطلاقة الإرادة، وأنها لا تحتبس داخل النواميس التي تختارها. ولم يتكرر حادث عيسى لأن الأصل هو أن تجري السنة التي وضعها الله، وأن ينفذ الناموس الذي اختاره. وهذه الحادثة الواحدة تكفي لتبقى أمام أنظار البشرية معلمًا بارزًا على حرية المشيئة، وعدم احتباسها داخل حدود النواميس {ولنجعله آية للناس}.
ونظرًا لغرابة الحادث وضخامته فقد عز على فرق من الناس أن تتصوره على طبيعته وأن تدرك الحكمة في إبرازه، فجعلت تضفي على عيسى ابن مريم عليه السلام صفات ألوهية، وتصوغ حول مولده الخرافات والأساطير، وتعكس الحكمة من خلقه على هذا النحو العجيب، وهي إثبات القدرة الإلهية التي لا تتقيد تعكسها فتشوه عقيدة التوحيد.
والقرآن في هذه السورة يقص كيف وقعت هذه العجيبة، ويبرز دلالتها الحقيقية، وينفي تلك الخرافات والأساطير.
والسياق يخرج القصة في مشاهد مثيرة، حافلة بالعواطف والانفعالات، التي تهز من يقرؤها هزًا كأنما هو يشهدها: {واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانًا شرقيًا فاتخذت من دونهم حجابًا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرًا سويًا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيًا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلامًا زكيًا قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيًا قال كذلكِ قال ربكِ هو عليَّ هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرًا مقضيًا}..
فهذا المشهد الأول فتاة عذراء. قديسة، وهبتها أمها وهي في بطنها لخدمة المعبد. لا يعرف عنها أحد إلا الطهر والعفة حتى لتنسب إلى هارون أبي سدنة المعبد الإسرائيلي المتطهرين ولا يعرف عن أسرتها إلا الطيبة والصلاح من قديم.
ها هي ذي تخلو إلى نفسها لشأن من شؤونها التي تقتضي التواري من أهلها والاحتجاب عن أنظارهم.. ولا يحدد السياق هذا الشأن، ربما لأنه شأن خاص جدًا من خصوصيات الفتاة..
وها هي ذي في خلوتها، مطمئنة إلى انفرادها. ولكن ها هي ذي تفاجأ مفاجأة عنيفة.. إنه رجل مكتمل سوي: {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرًا سويًا}.. وها هي ذي تنتفض انتفاضة العذراء المذعورة يفجؤها رجل في خلوتها، فتلجأ إلى الله تستعيذ به وتستنجد وتستثير مشاعر التقوى في نفس الرجل، والخوف من الله والتحرج من رقابته في هذا المكان الخالي: {قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيًا} فالتقيّ ينتفض وجدانه عند ذكر الرحمن، ويرجع عن دفعة الشهوة ونزغ الشيطان..
وهنا يتمثل الخيال تلك العذراء الطيبة البريئة ذات التربية الصالحة، التي نشأت في وسط صالح، وكفلها زكريا، بعد أن نذرت لله جنينا.. وهذه هي الهزة الأولى.
{قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلامًا زكيا}.. وليتمثل الخيال مقدار الفزع والخجل. وهذا الرجل السوي الذي لم تثق بعد بأنه رسول ربها فقد تكون حيلة فاتك يستغل طيبتها يصارحها بما يخدش سمع الفتاة الخجول، وهو أنه يريد أن يهب لها غلامًا، وهما في خلوة وهذه هي الهزة الثانية.
ثم تدركها شجاعة الأنثى المهددة في عرضها! فتسأل في صراحة: كيف؟
{قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيًا}.. هكذا في صراحة. وبالألفاظ المكشوفة. فهي والرجل في خلوة. والغرض من مباغتته لها قد صار مكشوفًا. فما تعرف هي بعد كيف يهب لها غلامًا؟ وما يخفف من روع الموقف أن يقول لها: {إنما أنا رسول ربك} ولا أنه مرسل ليهب لها غلامًا طاهرًا غير مدنس المولد، ولا مدنس السيرة، ليطمئن بالها. لا. فالحياء هنا لا يجدي، والصراحة أولى.. كيف؟ وهي عذراء لم يمسسها بشر، وما هي بغي فتقبل الفعلة التي تجيء منها بغلام!
ويبدو من سؤالها أنها لم تكن تتصور حتى اللحظة وسيلة أخرى لأن يهبها غلامًا إلا الوسيلة المعهودة بين الذكر ولأنثى. وهذا هو الطبيعي بحكم التصور البشري.
{قال كذلك قال ربك هو عليَّ هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا}..
فهذا الأمر الخارق الذي لا تتصور مريم وقوعه، هين على الله. فأمام القدرة التي تقول للشيء كن فيكون، كل شيء هين، سواء جرت به السنة المعهودة أو جرت بغيره. والروح يخبرها بأن ربها يخبّرها بأن هذا هين عليه. وأنه أراد أن يجعل هذا الحادث العجيب آية للناس، وعلامة على وجوده وقدرته وحرية إرادته. ورحمة لبني إسرائيل أولًا وللبشرية جميعًا، بإبراز هذا الحادث الذي يقودهم إلى معرفة الله وعبادته وابتغاء رضاه.
بذلك انتهى الحوار بين الروح الأمين ومريم العذراء.. ولا يذكر السياق ماذا كان بعد الحوار، فهنا فجوة من فجوات العرض الفني للقصة. ولكنه يذكر أن ما أخبرها به من أن يكون لها غلام وهي عذراء لم يمسسها بشر، وأن يكون هذا الغلام آية للناس ورحمة من الله. أن هذا قد انتهى أمره، وتحقق وقوعه: {وكان أمرًا مقضيًا} كيف؟ لا يذكر هنا عن ذلك شيئًا.
ثم تمضي القصة في مشهد جديد من مشاهدها؛ فتعرض هذه العذراء الحائرة في موقف آخر أشد هولًا: {فحملته فانتبذت به مكانًا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا}.
وهذه هي الهزة الثالثة..
إن السياق لا يذكر كيف حملته ولا كم حملته. هل كان حملًا عاديًا كما تحمل النساء وتكون النفخة قد بعثت الحياة والنشاط في البويضة فإذا هي علقة فمضغة فعظام ثم تكسى العظام باللحم ويستكمل الجنين أيامه المعهودة؟ إن هذا جائز. فبويضة المرأة تبدأ بعد التلقيح في النشاط والنمو حتى تستكمل تسعة أشهر قمرية، والنفخة تكون قد أدت دور التلقيح فسارت البويضة سيرتها الطبيعية.. كما أنه من الجائز في مثل هذه الحالة الخاصة أن لا تسير البويضة بعد النفخة سيرة عادية، فتختصر المراحل اختصارًا؛ ويعقبها تكون الجنين ونموه واكتماله في فترة وجيزة.
ليس في النص ما يدل على إحدى الحالتين. فلا نجري طويلًا وراء تحقيق القضية التي لا سند لنا فيها.. فلنشهد مريم تنتبذ مكانًا قصيًا عن أهلها، في موقف أشد هولًا من موقفها الذي أسلفنا. فلئن كانت في الموقف الأول تواجه الحصانة والتربية والأخلاق، بينها وبين نفسها، فهي هنا وشيكة أن تواجه المجتمع بالفضيحة. ثم تواجه الآلام الجسدية بجانب الآلام النفسية. تواجه المخاض الذي {أجاءها} إجاءة إلى جذع النخلة، واضطرها اضطرارًا إلى الاستناد عليها. وهي وحيدة فريدة، تعاني حيرة العذراء في أول مخاض، ولا علم لها بشيء، ولا معين لها في شيء.. فإذا هي قالت: {يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا} فإننا لنكاد نرى ملامحها، ونحس اضطراب خواطرها، ونلمس مواقع الألم فيها. وهي تتمنى لو كانت {نسيًا}: تلك الخرقة التي تتخذ لدم الحيض، ثم تلقى بعد ذلك وتنسى!
وفي حدة الألم وغمرة الهول تقع المفاجأة الكبرى: {فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريًا وهزى إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبًا جنيًا فكلي واشربي وقري عينًا فإما ترين من البشر أحدًا فقولي إني نذرت للرحمن صومًا فلن أكلم اليوم إنسيا}..
يا لله! طفل ولد اللحظة يناديها من تحتها. يطمئن قلبها ويصلها بربها، ويرشدها إلى طعامها وشرابها. ويدلها على حجتها وبرهانها!
لا تحزني.. {قد جعل ربك تحتك سريًا} فلم ينسك ولم يتركك، بل أجرى لك تحت قدميك جدولًا ساريًا الأرجح أنه جرى للحظته من ينبوع أو تدفق من مسيل ماء في الجبل وهذه النخلة التي تستندين إليها هزيها فتساقط عليك رطبًا. فهذا طعام وذاك شراب. والطعام الحلو مناسب للنفساء. والرطب والتمر من أجود طعام النفساء. {فكلي واشربي} هنيئًا. {وقري عينًا} واطمئني قلبًا. فأما إذا واجهت أحدًا فأعلنيه بطريقة غير الكلام، أنك نذرت للرحمن صومًا عن حديث الناس وانقطعت إليه للعبادة. ولا تجيبي أحدًا عن سؤال..
ونحسبها قد دهشت طويلًا، وبهتت طويلًا، قبل أن تمد يدها إلى جذع النخلة تهزه ليساقط عليها رطبًا جنيًا.. ثم أفاقت فاطمأنت إلى أن الله لا يتركها. وإلى أن حجتها معها.. هذا الطفل الذي ينطلق في المهد.. فيكشف عن الخارقة التي جاءت به إليها..
{فأتت به قومها تحمله}.. فلنشهد هذا المشهد المثير:
إننا لنتصور الدهشة التي تعلو وجوه القوم ويبدو أنهم أهل بيتها الأقربون في نطاق ضيق محدود وهم يرون ابنتهم الطاهرة العذراء الموهوبة للهيكل العابدة المنقطعة للعبادة.. يرونها تحمل طفلًا!
{قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيًا}.
إن ألسنتهم لتنطلق بالتقريع والتأنيب: {يا مريم لقد جئت شيئًا فريًا} فظيعًا مستنكرًا.
ثم يتحول السخط إلى تهكم مرير: {يا أخت هارون} النبي الذي تولى الهيكل هو وذريته من بعده والذي تنتسبين إليه بعبادتك وانقطاعك لخدمة الهيكل. فيا للمفارقة بين تلك النسبة التي تنتسبينها وذلك الفعل الذي تقارفينه! {ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيًا} حتى تأتي بهذه الفعلة التي لا يأتيها إلا بنات آباء السوء والأمهات البغايا!
وتنفذ مريم وصية الطفل العجيب التي لقنها إياها: {فأشارت إليه}.. فماذا نقول في العجب والغيظ الذي ساورهم وهم يرون عذراء تواجههم بطفل؛ ثم تتبجح فتسخر ممن يستنكرون فعلتها فتصمت وتشير لهم إلى الطفل ليسألوه عن سرها!
{قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيًا}.
ولكن ها هي ذي الخارقة العجيبة تقع مرة أخرى: {قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيًا وجعلني مباركًا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيًا وبرًّا بوالدتي ولم يجعلني جبارًا شقيًا والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيًا}.
وهكذا يعلن عيسى عليه السلام عبوديته لله. فليس هو ابنه كما تدعي فرقة. وليس هو إلهًا كما تدعي فرقة. وليس هو ثالث ثلاثة هم إله واحد وهم ثلاثة كما تدعي فرقة. ويعلن أن الله جعله نبيًا، لا ولدًا ولا شريكًا. وبارك فيه، وأوصاه بالصلاة والزكاة مدة حياته. والبر بوالدته والتواضع مع عشيرته. فله إذن حياة محدودة ذات أمد. وهو يموت ويبعث. وقد قدر الله له السلام والأمان والطمأنينة يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيًا..
والنص صريح هنا في موت عيسى وبعثه. وهو لا يحتمل تأويلًا في هذه الحقيقة ولا جدالًا.
ولا يزيد السياق القرآني شيئًا على هذا المشهد. لا يقول: كيف استقبل القوم هذه الخارقة. ولا ماذا كان بعدها من أمر مريم وابنها العجيب. ولا متى كانت نبوته التي أشار إليها وهو يقول: {آتاني الكتاب وجعلني نبيًا}.. ذلك أن حادث ميلاد عيسى هو المقصود في هذا الموضع. فحين يصل به السياق إلى ذلك المشهد الخارق يسدل الستار ليعقب بالغرض المقصود في أنسب موضع من السياق، بلهجة التقرير، وإيقاع التقرير: {ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن فيكون وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم}..